أحمد زكي

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

أحمد زكي (1949-2005) لم يكن يمثل علينا باليتم، فقد كان يتيما بالفعل. ولم يكن يمثل علينا أدوار الرئاسة، فقد كان رئيسا فعليا لا اغتصابا بمشاعره وأحاسيسه، حتى جاءنا مَن اغتصب حكما على ظهر دبابة متماحكا في الزهد والصلاح، ومتقمّصا دور اليتيم، وما هو باليتيم، ولاعبا دور الفقر، وما هو بفقير. إذن، لماذا نحب صدق أحمد زكي، ونتضاحك على سواه؟. لم يكن أحمد زكي يسعى وراء أحمد زكي، لكنه كان يسعى وراء الشخصية التي صار بها نائبا عنها أمام الكاميرا، ولم يكن أبدا ساعيا، من خلال فنه، وراء الملك على الأرض، كما يفعل بعضهم في معيّة السلطات. كان أحمد زكي يسعى إلى نسيان أحمد زكي، لكي يؤكد على مزيد من حلاوة الفن. لم يكن أحمد زكي يتيم حياة بالمعنى الضيق، لكنه كان يتيم فن يسعى إلى اكتمال الحياة وتذوقها بعد حرمان. كان يسعى جاهدا للخروج بالشخصيّة من حال يتمها إلى حال فرحها الفني، لكي يضيف إلى الناس فرحا آخر، تم نسيانه أو هجره أو تم قمعه.

قدّم أحمد زكي كيمياء الفن بخفة، بعيدا عن تقعّر مصطلحاته في قاعات درس الأكاديميات والمعاهد. كانت عيونه هي كاميرات أحاسيسه وبوابات دواخله، وهو يتقمّص الشخصية، فهو طه حسين الباحث عن أحمد زكي، أو أحمد زكي الباحث عن طه حسين، كي يدهشنا بتلك المسافة المصنوعة من رقّة الإحساس ما بين الاثنين، من دون تورط في السذاجة أو المبالغة. أحمد زكي هو المحروم الذي جسّد بالحرمان أحلام غيره من دون تورط في تضخيم الذات كـ سوبرمان من ورق، أو إذلالها كـضحية مستدامة كما يفعل أستورجية الفن، حتى فيما بعد السبعين من أعمارهم، كي تتضخم ذواتهم. ويصيرون عبئا على عضلاتهم ووجوههم ووجودهم، فتزيد مساحة المساحيق حضورا، وتلازمهم في حلهم وترحالهم، كالجلد تماما، كعرائس السيرك.

جاء أحمد زكي من الهامش، لكي يصنع متناً على الشاشة، متناً خاصاً به، وبشكله وأدائه، متناً لا مشرط فيه لرغبات السلطة وأجندتها الخفية إلا فيما ندر. عاش لغرفته ولحريته والفن، ولم يكوّن مستعمرةً من حوله، أو حاشيةً غالبا ما تكون معولا للإفساد. كان يعي ذلك بفطرته، فاحتمى بغرف الفنادق والوحدة. سجية لم يفسدها المدجنون، ومتعهدو الخراب وشهود زور الفن ومقاولو الليل وحبكات التسييس وأصحاب مقصات الخياطة من المنتجين والمؤلفين لصالح السلطات القائمة.

كان أحمد زكي نظيف القلب من شوائب التدليس للسلطة، كي يستمر مثل سوبرمان من ورق على الشاشة بأي ثمن، واكتفى بغرفةٍ في فندق، كي لا تحتل الشهرة سريرته، ويصير المتن السلطوي، بكل خطاياه، هو المتحكم في مصير هامشه. صحيحٌ أنهم ساقوه بعبقرية إلى متن «ناصر 56» و«السادات»، لكنه أراد أن يتحدّى نفسه بالاثنين. ولم تخل الطبختان، بالطبع، من عبقرية الاستثمار السياسي في الفن، وفي موهبة أحمد بالطبع.

فرّ أحمد زكي بقلبه وإحساسه ناجيا، وترك زحام النجومية ورخامها المغشوش و ورخامتها أيضا على باب غرفته، تاركا هوس النجومية وصنّاعها عامدا وعزيزا. ترك ذلك كله للمهرّجين ولأصحاب شباك التذاكر، ولباروكات الشعر المستعار، وللسيرك السياسي المضروب بخفةٍ حول ليل القاهرة، لكي ينوب عن أحزان المساكين والطيبين، بعيدا عن السيرك. لم تكن فيه بشرة حسين فهمي اللامعة بالدم والأناقة والمصالح وعطور السلطة في أي عصر. لكنه كان ابن نيلنا وبشرتنا وانكسارنا وعزتنا أيضا. هل نبكي سواده (سواد أحمد) أم نبكي ماء النيل، أم نبكي ضياعنا، حتى جاءنا من يمثل علينا دور الأحزان، ويرهن ماء نيلنا. هل أبكي أحمد زكي، أم أبكي عزة بلادنا. البكاء واحد، والحزن أيضا.