أغاني المهرجانات في مصر

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

أغاني المهرجانات في مصر عبارة عن لون غنائي نشأ في ظروف خاصة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، بالتوازي مع المد الثوري في 2011 وما أعقبه من أحداث عشوائية وتطورات في فنون الشارع والميدان بسائر أشكالها السمعية والبصرية، وبدأ صدر الأغنية الشعبية التقليدية يتسع لموسيقى الراب والتكنو والإلكترو ميوزيك بصبغات محلية فيها أحيانًا من الفكاهة والروح المصرية، وتجاور ذلك مع انتشار فنون بصرية شعبية مثل البوب آرت إلى جانب الغرافيتي وتطور الكوميكس والكاريكاتير. في هذا السياق المنفلت من الأطر، بإيقاع متسارع وضجيج صارخ كالشارع النابض، طرحت أغنيات المهرجانات للمرة الأولى موضوعات من قبيل التفاوت الطبقي وشرائح الفقراء والمهمّشين والمغتربين والمنفيين والمدمنين، كما اتسعت لأجواء الاحتجاج والمعارضة السياسية، وعرفت أشكالًا وتعبيرات جديدة عن الغزل والعشق والتصوف ووصف مفاتن المرأة والصداقة والعلاقات العاطفية والأسرية وغيرها، كما اقترنت هذه الموسيقى والأغنيات بالإعلانات، وشكلت واجهة استهلاكية مثالية، كونها بالغة الحيوية والصهللة.

هذه كلها، وغيرها، نقاط فنية يمكن لمن أراد الانطلاق منها من أجل قراءة لون فني يتابعه مئات الملايين، شئنا أم أبينا، ويحقق أعلى المشاهدات والمبيعات، ولا يخلو منه سوق أو شارع أو ميدان أو بيت أو وسيلة مواصلات أو حلقة رقص أو قاعة أفراح فوق سطح منزل أو في أرقى الفنادق، فهو فن وصل إلى الشعب لأنه نابع منه، وإن كان يحمل الكثير من العثرات والملاحظات الفنية فإنها انعكاسات لإخفاقات هذا الشعب وأزماته وانحداراته التي طالت كل شيء، ومن الممكن تتبع منابت وجذور هذه الإفرازات الفنية لفهم بوصلة المجتمع ككل، وأسباب وصول هذا النمط دون غيره إلى الصدارة على هذا النحو.

لعل من العوامل المنشطة لأغنيات المهرجانات والاستعراضات الموسيقية الحركية وغيرها وصول الغناء النمطي والتطريبي بسائر أشكاله إلى درجة بائسة من الجمود والاجترار، والانسلاخ عن العصر، مع اتسامه كذلك بالصفات الأكثر رداءة وغباء وهي التعالي والفوقية وادّعاء النخبوية وخلط الجمالي بالأخلاقي، والطريف أن رأس هذا الأداء الذي يدور في فلك غيره من رموز الماضي هو هاني شاكر نفسه، نقيب المهن الموسيقية، الذي لم يتجاوز في أوج مراحل نصاعته ظلًّا باهتًا من ظلال عبد الحليم حافظ، إذا جرى افتراضيًّا إهدار البُعد الزمني، وتجاهل حركة الموسيقى والغناء الجديدة التي شهدها الربع الأخير من القرن الماضي، وغيرت شكل الأغنية وطبيعتها، ومن رموزها الطليعيين مطربون وموسيقيون من جيل هاني شاكر نفسه، منهم محمد منير على سبيل المثال، وأحمد منيب، وهاني شنودة، ويحيى خليل، ومن بعدهم حميد الشاعري، والحركة التي أطلق عليها الأغنية الشبابية، وما أعقب ذلك من تيارات وموجات إلى يومنا هذا.

لقد جنت أغنيات المهرجانات كل هذه الرجوم والرصاصات بصدرها العاري الصادم، كونها ببساطة قد جسّدت ثقافة التمرد، وشكّلت تهديدًا حقيقيًّا لفكرة السلطة، وللقبضة الحاكمة المهيمنة على حرية التعبير، ولمفاهيم السيطرة والمركزية والاستحواذ والاحتكار والتوجيه والضبط والربط والتحكم الآلي في القطيع، إلى جانب محاربة البعض لها لأسباب إنتاجية وتنافسية بطبيعة الحال، لأنها سحبت البساط من تحت أقدام منتجين ومروّجين من العيار الثقيل، وأسهمت في زيادة مأساة المقلدين والمتجمدين والعاجزين عن مواكبة العصر الحديث بطرح راقٍ بديل.

إنْ كان ما يتردد عن انحدار الذوق وتسطيح الفن يعكس أزمة نوعية ما، فإن الأزمة الأكبر والأشمل بالتأكيد هي تكلس المشهد القديم البائد برمّته، بما يحمله من شعارية وانتفاعية وتدليس ونزعة جنونية نحو التسلط وفرض قيود انتقائية على الشعب، لم يعد لها وجود في العالم. ولعل أحدث نكات مصر المتعالية هي ما جرى الإعلان عنه، من مقاومة الفن الشعبي الهابط بتقنية الهولوغرام، إذ أمكن بهذه التقنية استعادة هيكل أم كلثوم الشامخ في إحدى حفلات دار الأوبرا، فبتجسيد السّتّ من جديد تكون المؤسسة الرسمية قد وضعت يدها على سر استعادة الأصالة وزمن الفن الجميل، ولا يتبقى إلا تحضير أرواح الجماهير .

مصر فرغت من انحداراتها وملوثاتها ولم يبق غير الموسيقى الصاخبة المعكرة للصفو والرخاء[عدل | عدل المصدر]

الهوجة الرقابية السلطوية، بكافة تحالفاتها وأسلحتها وقذائفها التي تدوّي منذ فترة دون انقطاع ضدّ أغنيات المهرجانات وفرقها وبعض المؤدين للاستعراضات الحركية والموسيقية من غير المطربين ممن خدشوا وقار السلطنة واحتشام الأذن والعين بتعبير رافضي هذه الثيمات من بابها، هي باختصار ردة فعل غاضبة إزاء أي خروج على النص، أي نص، على اعتبار أن أي نص له مرجعية وقالب وقداسة، وثم فإن له حرّاسًا وأوصياء وخبراء منصّبين للتحكم والتمرير والمنع وفق شروطهم وذائقتهم.

لو أنه حديث محصور في دائرة الفن، لما اتسع على هذا النحو غير المسبوق، وكأن مصر قد فرغت من أزماتها وانحداراتها وملوثاتها ولم يبق غير بعض ذبذبات الموسيقى الصاخبة المعكرة للصفو والرخاء والرفاهية ونسائم الحرية وإنجازات العقول في العلم والأدب والفن وسائر مجالات القوة الناعمة، ولو أنه حديث في الفن لمضى في اتجاه تخصصي تحليلي دقيق للظاهرة وملامحها وسماتها وإيجابياتها وسلبياتها ومدى أهليتها في استخلاص موتيفات شعبية وموروثة وفلكلورية ووسائل توجيهها وتطويرها وتعزيز خصوصيتها ونقاط تميّزها وتخليصها مما هو مجاني وسطحي ومبتذل ورخيص حتى، وذلك عبر طرح نوعي هادئ، في حدود "القضية" محل التناول، إذا جاز وصفها بالقضية أصلًا.

لم يحدث ذلك بطبيعة الحال، لأنه ليس حديثًا فنيًّا في المقام الأول، فكان التناول الرقابي والإجرائي والإعلامي والبرلماني والديني وعبر السوشيال ميديا هو حديث الزعيق والضجيج والشعارات والصخب، وربما الشتائم كذلك، والتعميم المخلّ، والتهديد والوعيد بالنفي والمحو والسحق، مع أنه يُفترض أنه حديث ضد الفوضى والبذاءة التلوث السمعي!، والأكثر إدهاشًا هو انطلاق الكثير من هذه الصواريخ الاحتجاجية من منصّات أخلاقية ودينية، لحماية ثوابت المجتمع ورواسخه، مع أن هذه المحاكم ذاتها، المحافظة على هوية الشعب وتقاليده، قد ارتضت مثلًا بالتصفيق للمطربات "المعتمدات" بالرقص عاريات في حفلات عامة تنظمها المؤسسة الرسمية، وباركت أفلامًا سينمائية ومسلسلات فضائية "ملتزمة بالتعليمات" قوامها السلاح والمخدرات والجريمة والجنس والإدمان، فأين كان الصوت الأخلاقي المعترض؟

أي هوس هو أن يصف المتحدث باسم البرلمان المصري أغنيات المهرجانات بأنها أخطر على مصر من فيروس كورونا؟ وأي تفسير لاستقطاع دار الإفتاء من وقتها وطاقتها وجهدها لكي تصدر فتوى تعممها وسائل الإعلام بتحريم أغاني المهرجانات كونها تحرض على الفحش وتدمر الأخلاق، مع التأكيد على أن الموسيقى والأغاني الدينية والوطنية هي المباحة؟ وهل لا يوجد على الساحة من ألوان الأغنيات غير أغنيات المهرجانات فقط والأغنيات الدينية والوطنية مما يستحق اهتمام دار الإفتاء؟

هذه الموجة، أو الهوجة، المناوئة، اتخذت أيضًا مسالك إجرائية عدة لمقاومة زحف الظاهرة، منها قرار نقابة المهن الموسيقية برئاسة هاني شاكر بمنع مطربي المهرجانات الشعبية والمؤدين غير المسجلين من العمل، وملاحقتهم قانونيًّا، وتحذير المنشآت السياحية والبواخر النيلية من التعامل معهم. وإزاء ما أثارته عبارات مغني المهرجانات حسن شاكوش من جدل في مهرجان "بنت الجيران" في استاد القاهرة، وخصوصًا جملة "خمور وحشيش" الهادمة للقيم المجتمعية، فقد تطور الأمر من جانب النقابة، "الحريصة على القيم العليا للمجتمع والعرف الأخلاقي أكثر من صلاحية الصوت، وفق بيانها المضحك، فقامت بإجراء آخر هو مخاطبة إدارة يوتيوب رسميًّا لمنع مثل هذه الأغنيات التي لا ترضى عنها ولا تحظى باعترافها، ولم تمنحها إجازة النقابة.