البكاء

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

البكاء أو النياحة طقس قديم عند العرب ، بدأ بالبكاء على الأطلال، ولا نعرف كيف أن العرب الذين عرفوا بأنهم من أكثر فرسان التاريخ بأسا ويصنفون على أنهم مقاتلون من الدرجة الأولى ، جمعوا بين القلب القاسي والقلب الباكي ؟ والغريب في الأمر أن البكاء على الأطلال تطور مع تطور الزمن العربي . فانتقل كالفيروس الفتاك من الشعر إلى السياسة . وأمسى الشعب العربي ، وعلى رأسه وسائل الإعلام والكتاب والمحللون وليس الملحنون فقط والصحافيون وصحفيو الأعمدة اليومية ، لا ينفكون تبكي أقلامهم على تطور البشرية في كل مكان ، بينما هم واقفون أمام أطلال أمجاد ماضيهم الذي ولى دون رجعة . اليابانيون لا يبكون على أطلال وضحايا هيروشيما وناغازاكي . إنهم شعب صامت لا يبكي ولا يضحك إنهم شعب يؤمن بأن الله خلق الإنسان ليعمل ويكتشف ويتطور ، وبدلا من ذرف الدموع قرر الشعب الياباني أن عليه أن يتصبب عرقا في المصنع والحقل .

تختلف موجات االبكاء حسب الجغرافيات الحضارية ففي الشعوب العربية توقفت الدموع في محاجرها منذ آخر دمعةٍ ذرفها عبدالله الصغير وهو يغادر الأندلس طريدًا ، فبكى مثل النساء مُلكًا لم يحافظ عليه مثل الرجال ، وفق أمه التي قرّعته بهذا البيت من الشعر ، والذي ذهب مثلًا عربيًّا بامتياز ، استفاد منه الحكام العرب ، للحفاظ على أملاكهم ، لا على أوطانهم . في أخلاق حكام الغرب الكافر وثقافاتهم ، على الحاكم أن يستقيل ، إذا أخفق بإقناع البرلمان بقرار مصيري يمس مستقبل الشعب والبلد ، أما في ثقافات حكامنا وأخلاقهم إذا كان ثمة أخلاق التي يخلو منها بند الاستقالة ، فلا حاجة أساسا لعرض القرارات على المجالس النيابية ، إن وجدت أصلًا، وإن عرضت لا يكون العرض إلا صوريّا ، فيما تكون المصادقة قد سبقت الاجتماع .

عند إستقالة أجنبي لا أحد يسأل لماذا استقال او استقالت غير شعوب العالم الثالث وطغاتهم فقط ، ففي مثل هذه الدهشة يشترك الطرفان في العجب العجاب ، فالشعوب تسأل: "منذ متى يستقيل حاكم إذا أخفق بتمرير صفقة مع البرلمان ؟"، فيما يقول الطغاة: "وماذا إذا فشلت الصفقة ويتناسى الطرفان أن الحكم في تلك الجغرافيات تكليف لا تشريف ، وأن آخر ما يفكر به الحاكم هو السلطة ، فإن أحسّ وهلة بأنه لم يعد مؤهلًا لخدمة شعبه، سرعان ما ينسحب بصمت ، أما دموعُه فلا تنهمر على ملكٍ مُضاع ، بل على خدمة مُضاعة لشعبه ، لم يستطع أن يؤديها كما كان يحلم قبل تسلّمه المنصب . في تلك البلاد، تكون السلطة عبئًا وقلقًا وعرقًا وخوفًا وحسابًا عسيرًا . وفي هذي البلاد تكون السلطة تمطّيًا ورفاهية وخدمًا وحشمًا وسياحة وأوامر .. هناك يكون الحاكم في خدمة الشعب ، وهنا يكون الشعب في خدمة الحاكم .

على هذا الأساس، تختلف موجبات البكاء بين جغرافيتين. الأولى تبكي فيها تيريزا ماي وحدها بلا شعبها، والأخرى تبكي فيها شعوبٌ بأكملها بلا حكامها، اللهم إلا عند زوال الملك من حكام "صغار" كعبدالله الصغير، وربما، أيضًا، كصدام حسين حين بكى رفاقُه في حزب البعث، قبل أن يأمر بإعدامهم إبّان الاجتماع الشهير في قاعة الخلد في بغداد، ليسجل سابقة فريدة من حاكم عربي بكى وهو على هرم السلطة، وإن كانت دموع التماسيح حاضرةً في المشهد السوريالي. أما ما دون ذلك، فلم يسجل التاريخ بكاء زعيم عربي على أي كارثة، أو مجزرة اقترفت في عهده، فلا بشار الأسد ذرف دمعةً واحدةً على نصف شعبه المهجر، ونصفه الآخر المروّع بالغازات السامة والقنابل الفسفورية، ولا عبد الفتاح السيسي اختطفت مجازره في ميدان رابعة العدوية وسواه دمعة عابرة من عينيه، ولا المجلس العسكري في السودان استوقفته جثث المعتصمين أمام مقر قيادة الجيش. هو اختلاف في ثقافة السلطة بين كوكبين ليس إلا، في الكوكب الأول يبكي الحكام من "تسلّط" الشعوب، وفي الكوكب الآخر تبكي الشعوب من تسلّط الحكام.