بيروت

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

بيروت مدينة الغرباء , لا تمتلك هذه المدينة شيئاً من أسرار جمال المدن: هي ليست طرابلس الشام المملوكية بأحواشها الساحرة، وإنما كانت في أوائل القرن التاسع عشر مجرد بلدة مهملة وصغيرة محاطة بسور مربع. كانت مدينة مربعة وضيقة، وسكانها صيادون وفلاحون. بيروت مدينة نسيت معنى اسمها، وطمرت نفسها على هامش الساحل السوري. ومنذ الفتح المصري انقلبت المدينة رأساً على عقب، فتوسعت في جميع الاتجاهات، وصارت ميناء جعل منه الفرنسيون ميناء الداخل كله.نَمت بيروت وصارت ولاية عثمانية، ومنذ بداية أزمنة النكبات في أواسط القرن العشرين، بدأت تستقبل الهاربين إليها. كبرت بيروت لأنها كانت مدينة اللاجئين. هذا هو سرها. خلال الحرب الأهلية الأولى في سنة 1860، استقبلت اللاجئين الهاربين من هول المذبحة في جبل لبنان، ثم استقبلت الهاربين من مذبحة دمشق. وجد اللاجئون إليها مدينتهم، لأنها من دونهم ما كان لها أن تصير مدينة. وتعاقبت عليها موجات اللاجئين:الهجرة الأرمنية بعد المذبحة الأرمنية الكبرى , الهجرة الفلسطينية بعد التطهير العرقي الوحشي في فلسطين , هجرة فلاحي الجنوب اللبناني في الخمسينيات والستينيات، حيث نشأ حزام الفقر , هجرة الرأسماليين السوريين والمصريين والعراقيين هرباً من قرارات التأميم , هجرة المثقفين العرب من بلادهم بحثاً عن حرية وجدوها في المدينة , هجرة الصحافيين العرب هرباً من القمع , هجرات لا تنتهي وصلت إلى ذروتها في الهجرة السورية الكبرى التي صنعتها مقتلة لا سابق لها، ارتكبها النظام ضد شعب قرر أن يدافع عن حقه في الحرية والكرامة الإنسانية.

اسم بيروت يعني شجرة صنوبر. فالصنوبر كان يزنّر المدينة ويعطيها رائحة البخور: غابات من أشجار الصنوبر تمتد إلى بحر تمخره سفن مصنوعة من خشب الصنوبر. لكن حبة الصنوبر التي صنع منها أهل بيروت مائدة لتنكيه طعامهم، ومادة لصناعة حلوياتهم، والأرز هو الشجر الذي زرعه الله، بحسب مزامير داود، أمّا الصنوبرة فشجرة ظلالها تكاد لا تقي من أشعة الشمس، وبخورها ومذاق ثمرتها الصغيرة يحتاجان إلى تدريب للحواس كي يُكْتَنَها مدينة الجميع، أي مدينة لا أحد. فتنة بيروت هي بابها المفتوح على إيقاع الموج. فالبيارتة عُرفوا بشغفهم بالموسيقى، كأن الموسيقى التي يعزفها الناس هي صدى الموج. هجرات لم تتوقف صنعت من بيروت مدينة الغربة الأليفة. مدينة الغرباء الذين حولوا غربتهم إلى وطن للإبداع والتجديد والجرأة. الشعر العربي الحديث بدأ في العراق، لكنه وجد في بيروت مجلته التي أطلق عليها مؤسساها السوريان يوسف الخال وأدونيس اسم "مجلة شعر". والحداثة الأدبية وجدت في بيروت مجلتها التي أسسها سهيل إدريس، البيروتي العريق، جاعلاً من "الآداب" مجلة العرب. النهضة المصرفية بدأت مع صيرفيّ مقدسي صنع أهم إمبراطورية مصرفية في المنطقة اسمه يوسف بيدس. حتى نظرية لبنان، الجبل والبحر وجمهورية التجار، صاغها العراقي الأشوري ميشال شيحا. كل شيء في بيروت صنعه بيروتيون، أكانوا لبنانيين أم غير لبنانيين، قادمون من المدن أو الأرياف. لعمارات الشاهقة التي صنعت طعم الأسمنت، بنتها أيدٍ عاملة سورية. حتى الشعوذة والسحر نشآ على يدَي الدكتور داهش، واسمه سليم العشي، الفلسطيني السرياني القادم من بيت لحم. الرجل جنّن بيروت، وأوصل رئيس جمهورية الاستقلال بشارة الخوري إلى الانهيار العصبي الذي كاد يدفع به إلى الاستقالة.

فندق السان جورج بنته عبقرية أنطون تابت المعماري اللبناني القادم من بحمدون، والذي أسس مجلة "الطريق"، التي كانت صوت الطليعة اليسارية اللبنانية والعربية. بيروت مدينة الجامعات والوعي الجديد والحركات الثورية، ففيها بدأ الفكر القومي العربي مع قسطنطين زريق الذي صكّ كلمة نكبة التي صارت العنوان الخاص بفلسطين في اللغات كافة. مدينة رئيف خوري وعمر فاخوري والأخطل الصغير وأمين نخلة والياس أبي شبكة ويوسف إبراهيم يزبك. مدينة غسان كنفاني ورجال في الشمس. مدينة الصحف التي كان جمال عبد الناصر يصرّ على قراءتها مع قهوة الصباح. مدينة كامل مروة ومدينة قاتله أيضاً. مدينة سمير قصير التي انكتبت بحبر عشق هذا الفلسطيني – السوري – اللبناني للحرية.

من الصعب فهم علاقة بيروت بدولة لبنان الكبير. الجنرال غورو أعلن في الأول من سبتمبر 1920 تأسيس دولة صغيرة بصفتها مشروعاً لتكبير متصرفية جبل لبنان. ولاية بيروت العثمانية التي كانت المتصرفية الصغيرة التي أسسها القناصل الأوروبيون في سنة 1864 تقع على حدودها، وجدت نفسها فجأة عاصمة لبلد لم تختر الانتماء إليه. دولة لبنان الكبير نشأت على أنقاض خرابين: مجاعة كبرى أودت بثلث سكان لبنان، وانهيار المشروع الاستقلالي مع هزيمة المملكة الفيصلية أمام الجيوش الفرنسية على تخوم دمشق. فجأة تحولت بيروت من عاصمة لولاية عثمانية أنشئت في سنة 1888، وضمت ألوية بيروت وعكا وطرابلس الشام واللاذقية ونابلس، والتي كانت مساحتها ثلاثين ألفاً وخمسمئة كيلومتر مربع، إلى عاصمة لبلد صغير اسمه لبنان الكبير!

هناك التباس تكويني في انتماء هذه المدينة، صارت في لبنان من دون أن تتلبنن، وبقيت في بلاد الشام من دون أن تكون جزءاً منها. بورجوازيتها وتجارها بزعامة رياض الصلح وقادة الكتلة الوطنية السورية صنعوا الصفقة التي حاولت أن تزيل الالتباس من دون أن تزيله بشكل كامل، وتبلورت الصفقة في مقولة الوجه العربي للبنان، التي صارت مخرجاً سمح للبنان وسورية بنيل استقلالهما عن الانتداب الفرنسي. لكن، وعلى الرغم من القطيعة في أوائل خمسينيات القرن الماضي، فإن بيروت بقيت في البين بين: مدينة تتجاوز آفاقها الثقافية والاقتصادية جغرافيتها، فهي نافذة الداخل العربي على البحر، والتي تحوّل ميناؤها بعد سقوط حيفا بيد الصهيونيين إلى ميناء الداخل العربي كله.

لكن ما بدا كأنه هوية ناقصة سرعان ما تحول إلى مرآة لتناقضات المنطقة وتحولاتها كافة. أعادت التسوية بين الغرب والعرب إنتاج المشروع اللبناني، وسمحت للمدينة بأن تكبر ويتسع دورها، بحيث انتفخ دورها الثقافي والاقتصادي. لكن هزيمة حزيران 1967، والسلام المستسلم الذي أعقب حرب أكتوبر 1973، أعلنا أن زمن الحروب الأهلية العربية بدأ مع الحرب اللبنانية التي شطرت بيروت إلى نصفين. منذ سنة 1975 لم تعد التسويات ممكنة، وهنا سقطت بيروت في الفخ اللبناني، وبدأت عملية لبننتها الطويلة والمؤلمة، والتي وصلت إلى ذروتها في انفجار أغسطس 2020 الإجرامي القاتل.

كانت الحرب الأهلية الطويلة إعلاناً ببداية الانهيار: لاجئون قدامى يتقاتلون مع لاجئين جدد، وطبقات عاملة وفئات مهمشة وجدت وسيلة التعبير الوحيدة عن نفسها في فوهات البنادق. نظام سياسي يقوده التجار والإقطاع السياسي تعفنت مفاصله، وصار عائقاً أمام أي تطور. فاشيون امتطوا الطوائف، وحلم فلسطينيعربي كسرته القبائل قبل أن يأتي الاجتياح الإسرائيلي ليطرده من لبنان، ولا تُستكمل عملية الطرد هذه من دون تدخّل النظام الاستبدادي في سورية، الذي أجهز عليه. الجيش الإسرائيلي يعربد وتنطلق رصاصات المقاومة الأولى ضده في شوارع بيروت. وبدلاً من أن تستعيد الشام مرفأها البيروتي، ذبحته بالخوات والزبائنية المتجددة، وبالتلاعب بالطوائف على طريقة الوزير العثماني فؤاد باشا. ودخلت بيروت في رقصة إعمار وحشية في ظل التوازن السعوديالسوري، وتراءى للبعض، وخصوصاً بعد طرد المقاومة الوطنية العلمانية من الجنوب، وتلزيم المقاومة لحزب الله، أن بيروت ستكون مزيجاً من هونكونغ وهانوي.

لكن المزيج انفجر منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي بدأ معه انهيار العرب وعودتهم إلى زمن استعماري متجدد. في ذلك الزمن بدا أن الاستبداد والبترو دولار أجهزا على روح المدينة. المدينة التي قاومت بثقافتها وصحافتها وحاولت أن تستعيد روحها، انهزمت أمام عجز النظام الطائفي عن بناء وطن. فبدلاً من أن تجمع البنية السياسية اللبنانية إنجازَي تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي وإجبار الجيش السوري على الانسحاب، في رؤية استقلالية جديدة، عادت إلى لعبة الارتهان للخارج في صراعات مريرة على السلطة التي أصبحت مجرد أداة نهب ولصوصية مكشوفة، جعلت من الفساد نظاماً سياسياً اقتصادياً شاملاً.

مع آخر الهجرات الثقافية من بيروت بدأنا نشعر بأن مدينة الغرباء دخلت في طور الاحتضار. وأن مَن يقوم بقتلها ليس عدواً أجنبياً، بل عصابات الطوائف الهمجية التي حولت لبنان إلى منهبة، وسيّدت الأوغاد على مدينتنا، بخطابهم العنصري الكريه، وبممارساتهم المنحطة ضد اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعاملات الأجنبيات. لكن هل نستطيع نحن اللبنانيين المنفيين أن نبقى في مدينة منفانا، بعدما غادرها جميع المنفيين العرب؟ لا أعرف الجواب، لكن ما أعرفه هو أن بيروت تستحق أن نموت معها، إذا لم نكن قادرين على منع الموت عنها.

هل رأيتم مدينة تبكي؟ قرأنا في كتب المؤرخين عن مآسي المدن: بغداد في زمن الاجتياح المغولي، والقدس في زمن الاجتياح الإفرنجي، وكانت الكلمات تغطي الألم لأنها لا تستطيع أن تكونه. أمّا بيروتنا فرأيناها ترتجف مذبوحة بزجاج منازلها وحطام جدرانها. صار البيت عدواً لساكنيه، لا ملجأ أمام وحشية نترات الأمونيوم، لا شي يقينا من يد الجريمة، لا شيء. لا البيت بيت، ولا الكلمات كلمات. آخ يا بيروت. نظام تهاوى على بيروت؛ نظام يموت، فقرر أن يقتل المدينة، كي لا يبقى شاهد على انحطاطه السياسي والأخلاقي. لكن بيروت تهزأ بهم، مدينة تنظر إلى قاتليها بازدراء يستحقونه، وتلتفّ بدمارها، وتروي حكايتها.