جبان

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

كانت الليلة الماضية عصيبة على كلِ مسامات جسدي بعدما تلقيت مكالـمة هاتفية من صديق يدعوني فيها إلى الاشتراك معه في مظاهرة ضد نظام الحكم ، وهو يعرف تماماً أنني مواطن مبني للمجهول ، ومفعول به ، ومجرور ، ومكسور الجناح ، ومنصوب عليه ،ومن أخوات كان ، وعلى لساني علامةُ استفهام ، وتسبق كل كلمة أتفوه بها علامةُ تعجب ، وحياتي من مهدها إلى لـحدها بين قوسين .

خشيت أن تكون عيون الأمن قد رصدت أسلاك الهاتف أو ستالايت المحمول ووجدت في ارتعاشة حنجرتي صيداً ثميناً ينبغي أن تصحبه في الفجر من فراشه ، وتـلقي به على أرضية سيارة الترحيلات ليستقبلي مأمور القسم قبل انبلاج فجر اليوم التالي . نزلت مسرعاً سلالم العمارة التي أقطنها ، حتى حارسها لم تلتق عيناي بعينيه خوفا من أن يقرأ في هرولتي لواعج نفس كاد الذعر يهشـم كل أجهزتها العصبية والعاطفية ، ويجمد أطراف جسد عاش على الهامش طوال حياة صاحبه الذي لم يدر بخلده للحظةٍ واحدة أن اللهَ نفخ من روحه في نسل آدم حتى يوم القيامة .

في الطريق اشتريت صحيفة اليوم وهي الأكثر تملـقاً للزعيم ، والأشد نقداً لخصومه المشاغبين الذين لم يتعلموا أننا فئران تتشرف بتقبيل حذائه ، وأننا أرانب تـقدم له جزيل الشكر لأنه قد قام بتأجيل ذبحها أياما أخر ، فإذا لاحت طلعته البهية سابـقنا الريح لكي لا يرانا . سمعت زميلين كانا بالقـرب مني يتحدثان في أمور سياسية ، أذْكـر منها ظن أحدهما أنه يجب الدفاع عن السجناء ، وأن معتقلي الضمير اخوتنا في الوطن ، وأشقاؤنا في الانسانية ، وأنَّ الواجب الأخلاقي يقتضي معارضة سيدنا وقائدنا الذي تـحدث كل الجرائم ضد المواطن بتواطيء معه، أو برضاه، الضمني أو الصريح ، أو بتوجيهاته التي لا يستطيع أحد أن يعصيها ولو بشـد عضـلة خلفية في وجه يوشي بتبـرم غير مرئي .

لم أشترك قطعاً في الحديث ، بل تسللت خارج المكان لئلا يطرح عليّ أحدهما سؤالا يـغنيني خوفي الدائم عن الإجابة عليه أو حتى السماح لأذنيي أن تـدخله في طبلتها ولو كان همساً غير مسموع .عاقبت اليوم ابني الأكبر عقابا لن ينساه بعدما أسـر إلي أنه اشترك في جروب على الفيسبوك يـبدي أعضاؤه المتهورون اعتراضاتٍ شبابيةً ساذجة على الأسرة الحاكمة ، ونفقاتها، وسوء تصرفاتها، وإهدار أموال شعبنا، فقررت أنْ أمنـعه من الدخول على الإنترنيت حتى يتعلم أن رفع الرأس أمام الكبار خطيئة من الكبائر التي لا أسمح بها في بيتي أو تحمل اسمي الذي ورثه أولادي.

طاعة ولي الأمر من طاعة الله ، وأستطيع أن استدعي من أقوال العلماء والفقهاء ، الأحياءِ منهم والأموات ، ما يجعل نبضات قلبي تعود منتظمة ومستقرة بعد الإيمان أن الخروج على طاعة جلادينا ، وسجـانينا، ومعـذبينا، ونهـابينا هي معصية للخالق ، عز وجل، والمؤمن الجبان له جنتان ، والمطيع كالقطيع يهش عليه الحاكم بسوطه فتنفصل مفاصل ركبتيه قبل أن بلتهب ظهره. يطاردني الأرق بعدما زادت جماعات مناهضة الحاكم ، وتغيير القوانين والدستور، والمطالبة بمساواة الراعي بالماشية ، والظن الأحمق أن دماءَنا النجسة لا تختلف عن الدماءِ الزرقاء النقية لأسيادنا، ومالكي رقابـنا، وراكبي ظهورنا

ماذا سأفعل إن نجح المعارضون ، وتـحرر الوطن ، ولم يـعد قفاي يتلذذ بكف غليظة تهوي عليه كلما رفع عينيه أمام السلطة أو ممثليها في كل مكان ؟ .أيُ قدم سأقوم بتقبيلها إنْ أصبح الوطن كله ملـكاً لي ولأهلي ولأبناء بلدي ، وحمل سيد القصر عصاه ورحل كما فعل الإستعمار من قبل ؟ . متعة أن تكون جبـاناً لا تعادلها متعة أخرى ، فكل الأيام متشابهة، وكل البصقات على وجهي متساوية ، ولا يهمني من يحـكـم، ولا أكترث لصراخ جاري الذي سحـلـته أجهزة الأمن أمام زوجته وأولاده وجيرانه ، ولا أسـرع لنجدة من يستصرخني، ولا أردد مع الحمقى شعارات جوفاءَ ضد سيدي وولي نـعمـتي.

لقد تمكنت من ضبط وبرمجة كل عضلات جسدي لتـصبح مطيعةً أكثر من طاعة كلب تـربى في أحضان كـرباج لا يستريح بعد الضرب أو التلويح إلا مع بقايا عظام يـلقيها إليه صاحبـه . أول أمس أرسلت رسالة إلكترونية غاضبة لصديق أراد توريطي في تلقـي مقالات وأخبار أدبية وشعرية ، لكنني خشيت أن تتسلل إليها كلمات سياسية ، أو يلتصق عنوان بريدي الإلكتروني بآخر لأحد المعارضين فتكون نهايتي أمام رائد صغير في قسم الشرطة التابع له سكني.

هؤلاء الأوغاد الذين يـعارضون الحكومة، وينتقدون القائد الملهم ، ويتحدون أجهزة حمايته التي تستطيع تصفية نصف سكان الوطن في مذبحة تصغـر بجانبها راوندا وكمبوديا و .. دارفور . لا أريد أن أنخرط في جماعة ، أو يتلوث توقيعي بكلمة (لا)، أو يذكـِرني أحد بأن سجناء الضمير هم أبناءُ بلدي ، أو يقنعني مخبول أنَّ الأموال التي ينهبها الحاكم وأولاده هي ملـك لأولادي وأحفادي، أو أنـصت لمجنون يحاول إلقاء مسؤولية خراب الوطن على نصـف النبي الجالس فوق رؤوسنا منذ اللازمن إلى يوم لا يعرفه عرَاف أو كاهن أو ضارب بالـودع .

إنني تراب فوق تراب لم يتصلصل بعـد في صورة بشر، وأن حياتي ومماتي ونـسكي ومحياي لمن يملك من قصره رقبتي ولساني ومشربي ومأكلي ، ومستقبل أولادي . لو جاء حمار ودخل القصر عنوة، وألقى البيان رقم واحد فإنني سأصفق له قبلما تتحرك أيدي الحاضرين، وسيهتف لساني باسمه الكريم قبل أن تتحرك شفاه الآخرين . نعم، أنا جبان ، ولو علـق سيدي كل الشجعان المدافعين عن حريتي على أشجار بطول الوطن السجن وعرضه فإنني خارج الدائرة وقـطـرها وحسابـِها.

فليحترق الوطن ، وليغتصب الحاكم كل أهل بلدي ، ولتسرق عائلتـه فـتات الطعام من أفواه أولادي ، ولتخرج جماهير الشعب غاضبة عليه، وليرقص على جثث ربع أو ثلث أو نصف الكائنات الحية فوق هذه الأرض المغتصبة، لكنني سأخلد كل ليلة إلى نوم عميق ولو بدا لي من ارتعاشة جسدي أنه أرق لا ينتهي مع إشراقة يوم جميل ، فصباح الشجـعان فـجـر، وصباح الجبناءِ ليل طويل .

مصدر[عدل | عدل المصدر]

  • محمد عبد المجيد , مقطع من يوميات جبان
شخصية الإنسان
حقيرتافهسخيفثقيل الدمطبّالبدون دمفهلويأونطجيكذابمجاملمنافقأزعرمعقدمدمنشرموطصايععرصجبانرخم