شهيد التذكرة

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

محمد عيد الذي عرف في مصر باسم شهيد التذكرة . سامحونا لقد أسمينا المقالة شهيد التذكرة وليس محمد عيد , كما اننا لا نتذكر اسم طالب الثانوي المنعوت بـ"شهيد الشهامة"؛ لأننا ساهمنا في ترسيخ اسم القاتل راجح في ذاكرتنا (#إعدام_راجح) ولم نهتم كثيرا باسم القتيل، ربما لأن اهتمامنا انصب على قيمة الشهامة. وبهذه الطريقة لم نعرف أسماء المقتولين في معظم الأخبار. حفظ الناس في مصر صرخة "خريج التوكتوك": حرام دا ما يرضيش ربنا.. كما حفظوا أسماء رمزية للشهداء: مينا دانيال وجيكا وعماد عفت وأسماء البلتاجي و.. كما دافعوا عن حالات تعرضت للتحرش والتنمر والاعتقال والتعذيب والفقر والاضطهاد والقتل.

هؤلاء المتضامنين والمعجبين بالمواقف الفردية، لم يهتموا بالمنظومة كاملة، وربما حاربوا آخرين تعرضوا لنفس الظروف، لكنهم كانوا خارج نعيم الهاشتاج، وربما لأن المزاج الفئوي أو السياسي، أو التبني الإعلامي، لم يضع الضحايا المظلومين موضع المانشيت التعاطفي العام، لذلك تكرس السلطة في مصر (كما يكرس الناس) حالة التعامل مع الفقر والقمع والانتهاك لوصفها "حالات فردية"؛ لا يسعى الطرفان للتعامل معها باعتبارها مشاكل بنيوية وأمراض منهجية لا حل لها إلا بتعميم القوانين والمساواة في الإعلام والأخلاق والحساب، ولا مانع من التعاطف الإنساني بعد ذلك لأنه سيكون بمثابة موقف مزاجي يضيف ولا يخصم من القوانين .

محمد عيد لم يكن بائعاً متجولاً ، أو أنه على الأقل لم يكن يمارس البيع داخل القطار ، بل كان في إجازة في الإسكندرية مع صديقه ، ثم نفدت نقوده، كما قد يحدث مع أي شاب حسب قول شقيقه المفجوع الذي ٱكد أن الأسرة طالبت ابنها بالعودة مع تحملها التكاليف حين يصل، ووصلت تلك التكاليف في أحد التصريحات إلى حد نصحه باستخدام خدمة أوبر من الإسكندرية إلى القاهرة، ما يعني مبلغاً باهظاً ولا شك. لكن الشاب (23 عاماً) فضّل أن يستقل القطار مع صديقه، ووقف بين العربات، محاولاً إقناع الكمسري بأنه سيدفع له في القاهرة، لكن الرئيس رفض، وفتح له باب القطار في لحظة هدأت فيها السرعة وخيّره بين الدفع أو القفز. "لم يكن محمد معتاداً على ركوب القطار، إذ لم يركبه من قبل سوى 4 مرات. قفز صديقه فأصيب ببعض الكدمات، أما محمد، فنزل على ركبتيه أولاً ثم قفز، فسقط تحت عجلات القطار ، وانفصلت رأسه انفصالاً تاماً عن الجثمان، كما قال تقرير الطب الشرعي.

حتى لو كان محمد قد استقل القطار من قبل 40 مرة، أو 400 مرة أو 4000 مرة، فلا ينبغي أن تكون لديه خبرة بالقفز، لا ينبغي أن يكون القفز خياراً، على أي نحو وتحت أية ظروف. لكن رئيس القطار، وهو صاحب أكبر خبرة ممكنة في السكك الحديد وضحاياها السابقين والمحتملين، فتح باب القطار , كيف يمكن –من الأصل- أن ينفتح الباب أثناء سير القطار؟ يتساءل مندهشون ، بعد توجيه كل الإهانات الممكنة إلى الشابين المفلسين اللذين قفزا إلى مصيرهما الدموي.

لو كانا أكبر في السن قليلاً، لربما امتلكا حكمة تجنب خيار يكمن فيه الموت مهما كان الثمن. لكن ربما أيضاً، لو كان خيار تسليمهما إلى الشرطة، أقل رهبة، لما قفزا. "الكمسري خيّرنا بين الدفع، أو القفز، أو تسليمنا إلى الشرطة حين نصل المحطة المقبلة"، يقول صديق القتيل الذي "نجا" ببعض الكدمات، ولم ينج من رؤية صديق عمره يفقد رأسه تحت القطار. "قفزنا.. رهبةً من تسليمنا إلى الشرطة أو حبسنا"، يضيف الصديق في تصريحات صحفية.

أصبحت قيمة المواطن المصري أقل من ثمن تذكرة القطار "يا تدفعو يا تنطو من القطار" الذي حدث نتيجة طبيعية لـتوحش السلطة على المجتمع من أعلى رأسها ممثلة في السيسي مرورا بأجهزة القمع والوزراء نزولا بالتسلسل الإداري حتى موظف مسؤول في قطار يستقوي على الفقراء فيجبر هذا الموظف اثنين من أبناء الشعب على ما يشبه الإنتحار طوعا خوفا من مصير مجهول ومرعب لهم في حال تسليمهم للشرطة التي تمثل سلطة القهر. فقد أوصل السيسي الشعب لأن يعيش نهاره وليله وهو داخل متوالية قهرية ما بين التوحش والخوف من أجل إحكام السيطرة بمقدرات الوطن. ففي مكونات السيسي الفكرية التي أثبتتها مواقفه: إن هذا الشعب لا ثمن لدمائهم ولا لكرامتهم ولا لأرضهم.

ربما قفزا أيضاً لأنهما لم يستطيعا أن يتحملا إهانات الكمسري أكثر من ذلك. ويعيدنا هذا إلى موقف الأسرة التي أصرت في معظم تصريحاتها، على أن يبدو ابنها في مظهر الشاب الذي أنفق كل نقوده تهوراً "زي بقية الشباب"، لا في مظهر الفقير الذي لا يستطيع تحمل ثمن التذكرة. بدا أن الأسرة لا تريد أن تتحمل، فوق فاجعتها الأصلية، إهانة إضافية واتهاماً بالفقر. يوضح ذلك، رفضها الأوليّ على الأقل، طبقا لمصادر صحافية، قبول التعويض العاجل (100 ألف جنيه) الذي صرفته الدولة لعائلة القتيل.

مبلغ المئة ألف، الكبير بالمعايير الاقتصادية المصرية، أضيفت إليه، كلفة عزاء فخم أقامته وزارة النقل في الحيّ الذي تقطنه أسرة القتيل. الوزير حضر شخصياً، كما ظهر في صور وبيان مجلس الوزراء، وعزّى في القتيل وقبّل رأس شقيقه وقدم الاعتذار. ولم يسع متابعون إلا أن يلاحظوا المفارقة، فهذه المبالغ الكبيرة التي تحملتها الخزينة العامة، أُنفقت للاعتذار عن جريمة وقعت من أجل مبلغ زهيد، "70 جنيهاً" فحسب، ثمن تذكرة أصر سائق القطار على تقاضيها من الشاب المسكين. إصرار –كما اتضح – بلغ حد الموت. تُجري النيابة تحقيقاتها مع الكمسري المحبوس على ذمة القضية، وترددت أنباء متضاربة عن طبيعة التهمة التي يمكن أن توجه إليه. هل هي القتل العمد؟ هل هي - كما قيل - القتل بالترويع ؟ هل ثمة توصيف في القانون المصري لمثل تلك الحالة: إخافة الضحية إلى حد أن تقفز بنفسها إلى الموت؟ هل يمكن محاكمة الرعب؟ وإن لم يكن ذلك ممكناً، فكم قتيلاً سيسقط بعد؟

يقول خبراء الأمان الهندسي إن متانة أي جسر تقاس بقدرة أضعف أعمدته على التحمل، وبهذا التعريف فإن قوة المجتمعات تقاس بمقدار قوة تحمل الفقراء والشرائح الضعيفة من الفئات العاملة. فمهما كانت معظم أعمدة الجسر قوية فإن انكسار عمود واحد ضعيف يؤدي على انهيار الجسر أو تعطيل وظيفته. وبهذا المعنى لا تدرك الدولة أنها ترتكب حماقة كبيرة غير علمية وغير آمنة عندما تهتم بتدعيم أعمدة قريبة منها، كفئات القضاء والأمن ونواب البرلمان وغيرهم، وتهمل أعمدة اضعف مثل الباعة الجائلين والطبقات العاملة الفقيرة؛ لأنها بذلك تعجل بالانهيار الشامل، فلحظة السقوط لا تمس حياة البوعزيزي فقط، بل تمس حياة الرؤوس الكبيرة في بلده، كما تأثرت حياة جمال مبارك وأحمد عز بحياة خالد سعيد وعماد الكبير.