صناعة المشايخ

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ملف:Elsharawy with Sadat 1978.jpg

صناعة المشايخ عبر التليفزيون المصرى صناعة إزدهرت فى السبعينات ، حين إحتاج محمد أنور السادات إلى ذخيرة فقهية دينية لدك حصون اليسار ، فلجأ إلى الجامعة حيث تشكلت الجماعات الإسلامية للرد على رذالات الطلبة اليساريين وساعده على ذلك عثمان أحمد عثمان بميوله الإخوانية وكراهيته الشديدة لليسار ، وبالطبع لجأ السادات بذكائه الشديد إلى التلفزيون ليساعده فى هذه الحرب وخاصة أن أبناء اليسار كانوا ذوى كاريزما خطابية وإعلامية شديدة الجاذبية حينذاك ، ووجد السادات ضالته فى المذيع أحمد فراج الذى إنتقل من الإذاعة إلى التليفزيون ليقدم برنامجه الشهير "نور على نور" كل يوم جمعة ، ومن يدرس تاريخ أحمد فراج الإعلامى أول من دشن هذه الصناعة الثقيلة صناعة الشيوخ ، يستطيع أن يرصد التغيرات المجتمعية والإعلامية المصرية منذ بداية السبعينات ، فهو أصدق ترمومتر يقيس درجة حرارة التغير والتبدل المصرى السريع ، فهذا الرجل كان لايقدم أى برامج دينية حين كان فى الإذاعة ،ولم يكن نجماً إذاعياً شهيراً مثل المأمون أبو شوشة أو طاهر أبو زيد مثلاً ، ولم يصبح نجماً تكتب عنه الصحف إلا عندما تزوج الفنانة صباح رمز الأنوثة الطاغية ذات المذاق اللبنانى حينذاك ،وسرعان ماأصابه التحول وأصبح برنامجه ترسانة صناعة المشايخ ذوى الحظوة الإعلامية ، وقويت علاقته بالسعودية حتى صار المشرف على مؤسسة زكى يمانى وزير البترول السعودى السابق ، وبدأ الجمهور يتعرف بفضله على وجوه كانت مغمورة محدودة التأثير ، صارت بفضل أحمد فراج نجوماً مثلهم مثل نجوم السينما ،ولكن كانت الحلقة المفصلية التى فصلت مابين مرحلتين كانت حلقة الإسراء والمعراج التى إستضاف فيها الشيخ محمد متولي الشعراوي

كان الشيخ الشعراوى قبل إستضافته فى برنامج "نور على نور" مجرد شيخ مجتهد فى مادة البلاغة يكتب أشعاراً لم يكتب لها النجاح ، تدرج فى السلك الوظيفى بالمعاهد الأزهرية من مدرس بمعهد طنطا إلى الزقازيق إلى الإسكندرية إلى مدير مكتب شيخ الأزهر ، وفى أثناء ذلك سافر إلى السعودية والجزائر ، ولكن بعد هذه الحلقة الشهيرة إكتسحت نجومية الشيخ الشعراوى كل ماعداها كالفيضان ، وصار له مريدون بالملايين ،وقد كان إختيار فراج للشعراوى فى منتهى الذكاء ، فالشيخ الشعراوى كان يتحدث وكأنه ولد أمام كاميرا ، يعرف كيف يؤثر فى جمهوره ويمسك بتلابيبهم ويسحرهم ويفتنهم بمنطقه ، وكان لديه حضور إعلامى طاغى ،وكان يستخدم جسده وذراعيه فى الحديث بطريقة لاتسمح للملل بان يتسرب إلى المشاهد ،وساهمت لكنته الريفية وحكاياته الشعبية البسيطة فى التسلل إلى وجدان وعقل الجمهور ،أى أنه كان ببساطة كنزاً إعلامياً لايقدر بثمن .

لم يترك السادات تلك الفرصة الذهبية تفلت من يديه ،وفتح مغارة على بابا ليغرف من هذا الكنز الذى لاينضب ، فعينه وزيراً للأوقاف ، وكان أول إستغلال للشيخ الشعراوى من السادات حين خرج علينا الشعراوى فى التلفزيون أثناء إنتفاضة يناير ليهاجم المظاهرات التى كانت تنطلق ككرة النار من بلد إلى بلد ، وكان السادات مصدوماً مذهولاً ولم يجد أمامه أفضل من نجومية الشعراوى لكى يطفئ هذا اللهيب المستعر ، وتوالى إستغلال السادات لكاريزما الشعراوى حين إحتاج إلى تنصيب نفسه ككبير العائلة فقال عنه الشيخ إنه لايسئل عما يفعل !، وعندما إحتاج إلى الإجهاز على جمال عبد الناصر بدون أن يظهر فى الصورة ، تقدم الشعراوى بحكايته الشهيرة عن أنه صلى لله شكراً يوم هزيمة 67 ، وحين ترك السادات الروس ولجأ إلى الأمريكان خرجت فتوى أن الأمريكان أصحاب الكتاب أقرب من الروس الكفار! ، وكانت هذه الفتاوى والتصريحات البداية الجنينية والحقيقية لصناعة المشايخ الجدد ،والتى نبهت السلطة إلى أهمية صناعة شيخ لكل مرحلة .

فقهاء السلاطين كانوا مشهداً غالباً ثابتاً روتينياً فى لوحة هذا الدين العظيم ، لم يكونوا مجرد رتوش باهتة بل كانوا الخط الأساسى ، واللون المكتسح ،والضوء المبهر ، كانوا يبررون للحاكم قتل معارضيه ومن ضمنهم زملاؤهم من فقهاء المعارضة ، وكانوا يزينون له أفعاله العدوانية ، ويسكتون عن سرقاته لبيت المال ، ويغضون الطرف عن مغامراته العاطفية ونزواته النسائية ، وينصبونه ملكاً بدرجة إله ، وسلطاناً برتبة رسول ، وكان السلطان يمنحهم الضياع والإقطاعيات والذهب والحرير وصرة الدينارات والغيد الحسان ، والأهم يمنحهم الأمان فى أن تظل رقابهم فى أماكنها على أجسادهم تطل على الغلابة من قصورهم المنيفة ،ولم يهمهم أن يكونوا كآلهة العجوة تصنعها السلطة لتأكلها عند قرصة الجوع!

كانت السلطة تحتاجهم بقدر مايحتاجونها بل أكثر ، وكانت كلمة السر هى الإلهاء ، بمعنى أن وظيفة الفقيه هى أن يغوص فى جدل فقهى ، أو يخترع مشكلة كلامية فلسفية ،أو يؤلف ويولف فتاوى غامضة لإلهاء الناس عن همها الحقيقى ومشاكلها الملحة ، فلم تكن فتاوى فقهاء السلاطين تتحدث عن توريث الخلفاء الحكم لأبنائهم بل كانت تتحدث عن حكم من يصلى وعلى ظهره قربة فساء !!،أو من لعضوه التناسلى فرعان هل عليه غسل واحد أم غسلين ؟!!!،لم تكن هذه الفتاوى نوعاً من الكوميديا أو التسلية ولكنها كانت مسكنات لأورام سرطانية لاينفع معها إلا البتر .

تجتاحنى صورة الكاهن الروسى راسبوتين كلما شاهدت واحداً من فقهاء السلاطين الجدد ، فهذا الكاهن سيطر على القصر الروسى وبالتالى على مقدرات الشعب الروسى لأنه كان يخدع بألاعيبه البهلوانية التى تنتمى إلى عالم الحواة القيصر ، ويوهمه بأنه يستطيع شفاء إبنه المصاب بالهيموفيليا (نزيف الدم المستمر من عدم التجلط ) ،وهذا هو حالنا بالضبط ننزف إقتصادياً وسياسياً وإجتماعياً ،وأحفاد راسبوتين يبيعون لنا الوهم ممثلاً فى فتاوى من عينة حكم من تخلع ثيابها أمام كلب ذكر ،ومصير المكوجى الذى يكوى ثياب السافرات ، وجواز حمل الموبايل أبو كاميرا الى آخر هذه المخدرات الفقهية التى يوزعها الإعلام على هيئة كبسولات فشر .


عندما ظهرت الفضائيات العربية زادت حمى صناعة المشايخ ، وزاد شبق الشيوخ إلى الظهور الذى سيتعدى الحدود ويتخطى الآفاق ،فبضغطة زر الريموت كونترول سيشاهده القابع فى كوخ أفريقى والساكن فى قصر أمريكى !، وأصبح إنشاء كل فضائية عربية مرتبط أولاً بصناعة شيخ يكون علامة هذه المحطة المسجلة ، وإذا كنا نبرر تنافس الفضائيات على تنجيم الشيوخ على أنه بيزنس ، فكيف نبرر هذا الفيضان من برامج الفتاوى على التلفزيون المصرى والفضائية المصرية والقنوات المتخصصة ؟، بالطبع لابد أن ينصب هذا فى خانة صناعة تخدير جديد وتبرير جديد وإلهاء جديد ،وخرج مانطلق عليه الدعاة الجدد فى حلة جديدة ، يرتدون ثياباً مغايرة ،ويتحدثون لغة مختلفة ،ولايقربون السياسة فإنها إثم عظيم ورجس من عمل الشيطان ،وزاد إرتباطهم بالنظام السعودى وصبغت فتاويهم باللون الوهابى القاتم ، وزاد الثراء الفاحش ، وزادت معه رحلات العمرة السبع نجوم التى يشرفون عليها ، والفتاوى الأون لاين والزيرو تسعمية ، وأصبح الحفاظ على السبوبة الإعلامية أهم من صدق الفتوى وعدالة القضية وأمانة الطرح ، وظهرت نماذج خالد الجندى المرتبط بالأوربت ،وعمرو خالد المرتبط بالإيه أر تى ،ومحمد هداية المرتبط بدريم.