علبة

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

جامع العلب الفارغة إنتقل الى رحمة الله يوم أمس أبو الفراغ ، الذي دحض مقولتنا الشعبية الدارجة ، حدثان لا ينكشفان: موت الفقير وزنى الثريّ، فقد استحوذ موت هذا الفقير ، تحديدًا ، على مساحة معقولة في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي: وفاة جامع علب فارغة بجانب حاوية في أثناء نبشها. ولم يقف الخبر عند حدود التدوين، بل رافقته صورة للمتوفّى النجم ، وهو متمدّد قبالة الحاوية، وحوله رهط من رجال الدفاع المدني والفضوليين، في تأكيد مبطّن أن موت الفقير حدث يستحق شدّ الانتباه والتوقف عنده. ما لم يدركه هؤلاء وأولئك أن البطل في هذا الحدث لم يكن الفقير، بل العلبة الفارغة ذاتها التي سقط المتوفى دونها؛ ذلك أنها الحكاية.. كلّ الحكاية منذ كانت مليئة، إلى أن أضحت فارغة.

على طرف مقابل، كان المتوفى أبو الفراغ، يراقب منذ طفولته ذلك الفراغ المبهم الذي يلفّ حياته بامتدادها الصحراويّ الشاسع: فراغ مطبق كالكماشة عليه، من بيته.. إلى أمعائه.. إلى جيبه.. إلى شارعه.. كل شيء كان فارغًا تمامًا، حتى الحيّز الذي يجدر أن يحتلّه باعتباره إنسانًا كان فارغًا منه؛ وإلا ما قيمة إنسان بلا أي حق بالحرية والصحة والتعليم والعمل؟ , في صحراء هذا الفراغ المطبق، أبت عبقرية الفقير إلا أن تلعب لعبتها الأخيرة في حياة أبو الفراغ، حين تساءل ذات فراغ أيضًا: يقولون إن الإنسان الإيجابي هو الذي يتمكّن من تحويل هزائمه إلى انتصارات، فما يمنعني أن أحوّل الفراغ إلى مكسب ؟

آنذاك كان أبو الفراغ متكئّا على جدار البطالة، حين لمح أحدُهم يجرع علبة كولا، ويحولها من علبةٍ مليئةٍ إلى فارغة بغمضة عين، وتذكّر عندها مقولة فلاسفة العصر الذين استأجر الأثرياء عقولهم وأقلامهم لإقناع الفقراء بضرورة التفاؤل عبر النظر إلى النصف المليء من الكأس، فاستشاط غضبًا، هو الذي نبش الأرض كلها، بحثًا عن هذا النصف، فلم يعثر منه على أي قطرة؛ لتومض في ذهنه فكرته الذهبية بالنظر إلى النصف الفارغ من الكأس هذه المرة، وتحويله إلى وظيفة تدرّ مالًا، بل قرّر أيضًا أن يدحض النظرية السابقة بنظريّةٍ جديدةٍ عمادها أن التفاؤل لا يكون إلا بالنظر إلى النصف الفارغ من الكأس، ولا تثريب عليه إن سجّل هذا الاختراع باسمه.

لمزيد من التفاؤل، أيضًا، استبدل اسمه، ليصبح أبو الفراغ، وقرّر أن يبيع الفراغ.. لم لا؟ هكذا قرّر، خصوصًا حين رأى أن الحياة كلها محصورة بين علبتين، مليئة وفارغة، الأولى في فم الأثرياء، والثانية في حلق الفقراء، فجعل من مطاردة العلبة الفارغة، من حاوية إلى حاوية، ومن فم إلى آخر، كأنها معركة مصير.لم تكن العلبة مقصودةً بذاتها بل فراغها، حصرًا، وكأنه يطارد حياته الموزّعة على علب فارغة، لا ليحتفظ بها، بل لينتقم منها ببيعها إلى تجار العلب الفارغة، بثمن بخس.. أبخس من ثمنه في عيون سادة الوطن وساسته. ومع كل علبة تباع كان يفقد جزءًا من عمره المقصوف على أرصفة الفراغ... وأصبح الوطن كلّه في عينيه أصغر من علبة فارغة.

أما الفصل الأخير الذي لم يحسب له أبو الفراغ حسابًا، فحدث عند تلك الحاوية التي أبت إلا أن تكتب المشهد الدرامي الختامي؛ إذ لم يدرك صاحبنا أنه استنفد علب حياته الفارغة كلها إلا حين سقط ميتًا وهو يهمّ بالتقاط علبة لم يعد فراغها من حقه، بل من حق طفل فقير آخر ينتظر دوره على طابور الفراغ الطويل. آنذاك، أدرك أبو الفراغ أن الرحلة بلغت منتهاها، بعد أن اكتشف أنه لن يترك أيّ فراغ بموته، هو الذي لم يمتلئ أيّ شيء في حياته، من بطنه إلى جيبه، إلى رصيده، إلى الوظيفة المنشودة، اللهم باستثناء عينيه اللتين ملأهما التراب في حياته قبل موته، وقبره الفارغ الذي لن تملأه غير جثته.. عندها قهقه أبو الفراغ طويلًا قبل أن يخرّ صريعًا وهو يحدّق في الفراغ.