فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

فيودور بن ميخائيلوفيتش بن دويستويفسكي كان صوت الله والشيطان في إنسان واحد استطاع أن يحتفظ لأدبه بصلاحية القراءة الأبدية , ولد عام 1821 في حي من أحياء موسكو الفقيرة وارثًا نوبات الصرع عن والده الطبيب في المستشفى العسكري . كان والده ذو طباع حادة ترك صورته القاسية في روايات دوستويفسكي لاحقا، أما والدته فكانت امرأة مريضة مؤمنة، سرعان ما غيبها الموت من حياته لتتركه في مواجهةٍ قاسية مع العالم حيث كان يتجول في ساعات فراغه شوارع الحي الفقير ليشاهد بعينيه كيف ينمو الإنسان في الظروف الاستثنائية من الحياة حيث كان الفقر سببا في خلل النظام الاجتماعي و الأخلاقي.

كان القدر المأساوي حليفا لفيودور ، فقد سُجن 1849 بتهمة انتمائه إلى جماعة التفكير المتحرر ، التي عدّها القيصر تسار نيكولاس جماعة خطِرة تهدد حكمه ، فأمر بإعدام أعضاء الجماعة ، وكان فيودور من بين هؤلاء الذين صدر القرار بإعدامهم ، غير أنه في اللحظة الأخيرة ، وبعد أن عايش دوستويفسكي لحظة الموت الحقيقية، صدرت الأوامر بتخفيف الحكم من الإعدام للنفي إلى سيبيريا حيث قضي الأيام القاسية بصحبة المجرمين والقتلة في ظروفٍ معيشية لا تليق بالإنسان.

عاد دوستويفسكي من هذه التجربة محمَّلًا بالألم الإنساني ، ووجهات نظر المنبوذين من المجرمين ، وبمعايشة لحظةٍ جوهرية كلحظة الموت الحقيقي عندما كان في ساحة الإعدام , فغرق في إدمان المقامرة ، حيث المقامرة ليست مجرد لعبة ولا مغامرة، إنها فلسفة جديدة قائمة على فكرة التخلي الحر عن الامتلاك ، ليس في هذه الحياة ما يستحق أن تحافظ عليه، بل في الحياة ما يستحق أن تُهدره لتمتلكه مرةً أخرى كلعبة حظ ، تمامًا كمصادفة نجاته من الإعدام في اللحظة الأخيرة.

بدأت نوبات الصرع تنتابه منذ التاسعة، لقد كانت نوبات الصرع بوابته الأولى نحو تجربة الموت ، تلك التجربة التي يمكن اعتبارها أمًّا للأسئلة الكبرى كلها. كانت نوبات الصرع تلقيه باعترافه هو نفسه إلى ملذات رهيبة. كان وهو في ذروة هذا التوتر العصبي يعاين الموت حيًا ، ويتصل بالوجه الآخر من هذا العالم الذي نعيش فيه، فيفهم ما لا سبيل إلى فهمه، ثم يعود إلى الأرض بعد التشنج الأخير مبهورًا مفئودًا، فهذه القدرة على التحليق فوق الظرف الإنساني تتيح له أن يؤكد وجود منطقة وسيطة لا هي في الواقع ولا هي الحلم. هناك أصواتٌ كثيرة يمكن أن نسمع وسوستها القاهرة في روايات دوستويفسكي: صوتُ القسوة، صوت المجرم ، صوت المريض ، صوت المتشائم ، صوت المؤمن ، صوت الملحد ، صوت الشفقة ، صوت المسيح ، صوت الشيطان، صوت العقل، صوت الإيمان، صوت الشهوة والغريزة، صوت الحب الصافي، لا يمكن أن نميز أيُّ هذه الأصوات كان صوته تحديدًا، لقد بدتْ كلها أصواته تمامًا، وكأنها جميعًا وجوهه الغائبة فيه.

إن طول الحوارات بوصفها سمة فنية تميزت بها روايات دوستويفسكي لم يكن إلا نتاجًا للأصوات المتعددة في داخل دوستويفسكي، لذا يعتبر مبدع الرواية متعددة الأصوات، وتعددية الأصوات تكشف تنوع الحياة، وتعقد المعاناة البشرية، وتباين الوعي والنظرة إلى العالم، الحوار عند دوستويفسكي ليس مقدمةً تعود إلى الحدث ، بل هو نفسه حدث. هذا التعدد في أصوات شخصياته يتميز باستقلاله الموضوعي عن شخصية دوستويفسكي ، أي إننا لا نعلم بالضبط أين هو موقع دوستويفسكي من هذه الأصوات ، وهذا ما يجعلها أكثر جاذبية لنا، ففي رواية الإخوة كارامازوف لا ندري إذا ما كان دوستويفسكي هو إليوشا المؤمن ، أم إيفان المثقف الملحد ، كلاهما يتحدثان وكأنهما لم يُخلقا داخل عقل واحد، هو عقل دوستويفسكي، وهذا يعني أن عقل دوستويفسكي نفسه لم يكن قادرًا على أن يخلق صوتًا واحدًا فقط.

عاش دوستويفسكي مع أسئلته الكبرى في حياة قلقة على الدوام ، والكتابة لم تكن سوى مهرب ومحاولات للإجابة عن هذه الأسئلة، لم يكن دوستويفسكي قادرًا على الشعور بالانسجام الذاتي ، لذا كتب مرةً إلى صديقه قائلًا:

إن أسوأ ما في الأمر أن طبيعتي خسيسة وشديدة الحماسة ، وفي كل شيء ، أذهب إلى الأطراف، وفي حياتي كلها تجاوزت كل اعتدال.

هذا الاعتراف على قصره يمكن أن يفسِّر التوتر الحاصل للقارئ في حال الدخول إلى عالمه الروائي ، لقد عانى دوستويفسكي دائمًا من هذا الانفصال: كان يرغب في أن يكون إنسانًا صالحًا، لكنه كان غير قادر على غض الطرف عن طبيعته الخسيسة، ومن ناحية ثانية، فقد كان يتجاوز الاعتدال دائمًا، إذ كان ممكنًا أن يكون راسكولينكوف مجرد قاتلٍ للمرابية العجوز في رواية الجريمة والعقاب ، لكنه رفض هذا التفسير، كانت الجريمة أعمق من قاتلٍ ومقتول، كانت عبارة عن سلسلة من الأسئلة التي لا تنتهي حول العدالة وتحققها، ومن هو المجرم الحقيقي. وكان يمكن أن يكون قاتل الأب هو الابن غير الشرعي في رواية الإخوة كارامازوف، لكن دوستويفسكي تساءل عن دور إيفان المثقف الملحد الذي صرخ: كل شيءٍ مباح وألهم القاتل، أيهما القاتل الحقيقي ؟ هذه هي أسئلة العدالة التي لا تنتهي، تمامًا كمغامرة المقامرة التي لا تنتهي بالإجابة: من كان يستحق الفوز؟

لم يتخلص دوستويفسكي في رواياته من هذه الدورة بين الانفعال وقمع الانفعال، هذه الدورة التي أوجد لها فرويد توصيفا آخر، فسماها غريزة الهدم. يرى فرويد أن حل التناقض القائم في شخصية دوستويفسكي بين كونها شخصية أخلاقية من جهة وشخصية آثمة من جهة أخرى يكون عن طريق إدراكنا أن غريزة الهدم القوية عند دوستويفسكي، التي ربما كان يمكن أن تجعل منه بسهولة مجرمًا، كانت موجهةً في حياته الفعلية أساسًا ضد شخصه هو إلى الداخل بدلًا من الخارج، وهكذا كانت الكتابة طريقته الوحيدة لقمع هذه التناقضات.

أبطال روايات دوستويفسكي[عدل | عدل المصدر]

دوستويفسكي يتناول الفرد في لحظةٍ معينةٍ من مصيره تكون فيها دعائم وجوده قد انهارت جميعًا. إن أبطال الأبله والمقامر والإخوة كارامازوف والإنسان الصرصار ينطبق عليهم هذا التوصيف تمامًا، إنهم إما مجرمون أو خاسرون أو لا مبالون أو غارقون في عدمية كئيبة. هذا الحشد العظيم للمجانين والسكارى والمجرمين في روايات دوستويفسكي قائم على التمييز بين المرض والصحة العقلية، فلا نشعر في الوهلة الأولى بأن هناك أي شيء مشترك بيننا وبين أولئك الذين يصفهم دوستويفسكي من المشردين والفوضويين والسكارى والمدمنين وأشباه القديسين وقتلة آبائهم والمصابين بالهستيريا. لم نلتق بهم يومًا في هذه الحياة، وسلوكنا المعتاد يختلف عن سلوكهم اختلافًا كاملًا، ومع ذلك فنحن نشعر بأنهم معروفون لنا، مألوفون عندنا على نحو سري عجيب. نفهمهم ونحبهم. بل إننا نتعرف على أنفسنا فيهم. يمكن أن نفسر حضور هذا الكم من المجرمين والسكارى في رواياته بسببين :

  • معايشته للمرضى في طفولته، وللمجرمين في تجربة نفيه، وللسكارى في شخصية والده، وهو ما انعكس على شخصيات روايته .
  • رغبته الملحة في معالجة القضايا الكبرى كالإيمان والإلحاد والعدالة وغيرها وهو ما استدعى أن يكون أبطاله استثنائيين ؛ إذ ليس بإمكان الشخص العادي أن يكون نموذجًا للسؤال ولا الإجابة؛ فإنما تفحص قدرة الإجابات هذه الأسئلة على الإقناع في الظروف الاستثنائية، لا في الظروف العادية.

البحث عن معنى الحياة في كتابات دوستويفسكي يتحول إلى قضية الإيمان باللَّه وليس قضية وجود اللَّه، لم يستطع دوستويفسكي إنكار وجود الله مطلقًا، لكنه ظلَّ غير قادر على الإيمان المطمئن في ذات الوقت , يعتبر الكثير من النقاد رواية الإخوة كارامازوف هي خلاصة أفكار دوستويفسكي حول الإيمان والله، وهي روايةٌ يجد فيها كل ضالٍ حجته: المؤمنون والملحدون معًا، فهناك من هاجم دوستويفسكي عقب نشرها بأنه أصبح رجعيًا بتدينه، لكنه رد مستاءً: لا، لم أؤمن بالله ولم أعترف به كما يفعل طفل، وإنما وصلت إلى هذا الإيمان صاعدًا من الشك والإلحاد بمشقة كبيرة وعذاب أليم. وعلى كل حال، في الإخوة كارامازوف كل شيء. وربما أقرب تفسير لهذه الحالة من الإيمان والتشكك ما رآه فرويد حين قال إن دوستويفسكي كان يتذبذب بين الإيمان والإلحاد، وأن عقل العظيم قد جعل من المستحيل عليه أن يتغاضى عن أي من الصعاب العقلية التي يؤدي إليها الإيمان، لقد كان يأمل أن يجد مخرجًا وتحررًا من الذنب،