هدم

من بيضيبيديا، الموسوعة الفارغة
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الهدم مش رح يكسر ، هم بهدّوا وإحنا بنبني , كلمات قالتها عجوزة فلسطينية أمام أنقاض بيتها , شتّان ما بين بيت مهدّم وإنسان صلب , الفلسطينية العجوز لم تكن تبكي او تنوح أو تشق الجيب، بل تعلن بإصرار عجيب: "مش رح يكسرونا، هم بهدّوا وإحنا بنبني". صدرت العبارة على لسان أم ناصر حميد، التي هدمت قوات الاحتلال الصهيوني بيتها للمرة الخامسة، من دون أن يمنعها الهدم المتواصل من إعادة بناء بيتها مجددًا.

هذه العجوز السبعينية، استشهد ابنها عبد المنعم، الملقّب "صائد الشاباك سنة 1994، بعد أن قتل ضابط المخابرات الإسرائيلية نوعيم كوهين، فيما يقضي سبعة من أبنائها أحكامًا بالسجن المؤبد، وثامنٌ في المعتقلات الإدارية. قد يتراءى لبعضهم أنها عبارة تجيء من قبيل المماحكة لاستفزاز الخصم لا أزيد، غير أن من يعرف الحالة الفلسطينية في الداخل يدرك جيدًا أنها مقولةٌ تدخل في صلب استراتيجية الشعب الذي يعرف كيف يبتكر كل يوم سلاحا جديدًا للمقاومة، خصوصًا إذا عزّ السلاح والنصير العربي من حوله.

لم تدخل فلسفة الهدم والبناء عبثًا في وجدان الفلسطينيّ ؛ لأسباب عدّة، أولها إصراره على تجنّب مصير أسلافه ممن ظنّوا أن الهدم نهاية كل شيء، فآثروا اللجوء إلى دول أخرى، بعد أن رأوا أنقاض بيوتهم تختلط بفلول ذكرياتهم، ومنهم من حمل مفاتيح بيته السليب ؛ حاملًا أملًا واهيًا بالرجوع ؛ لأن بيته لم يهدم، غير أنه تناسى أن اللجوء رديفُ الهدم أيضًا . وما لم يدركه جلاوزة الاحتلال، أيضًا، أن استجابة الفلسطيني للتحدّي تطوّرت لتجعل من الهدم رديفًا لتجدّد الحياة في عروقه، تمامًا كما تفعل خلايا الجسد، فقد بات ينظر إلى الهدم ضرورةً للتحفيز على البناء، بوصفه من أدوات نموّ المقاومة، والتشبّث بالمكان.

في المقابل، ما يزال الغباء يلفّ أدمغة من سنّوا قوانين هدم بيوت المقاومين ؛ ففي اعتقادهم الساذج أن الهدم كفيل بوأد روح المقاومة وإضعافها، غير أن المخرجات الفلسطينية اليومية ما تزال ، هي الأخرى ، تفنّد ذلك الزعم ، وتبرهن على إخفاقه ؛ لأن المقاوم الفلسطيني يستند إلى احتضانٍ ومؤازرةٍ من المجتمع ومؤسساته، وليس من أسرته فقط، ويدرك أن البيوت الفلسطينية كلها مفتوحة له، إن وجد نفسه مطاردًا من الجنود الصهاينة، كما أنه على قناعةٍ بأن ثمّة كثيرين سيشاركون بإعادة بناء بيته، إن هدمته جرافات الاحتلال.

استنادًا إلى رصيد الخبرات ذاك، وإلى جدار بيتها المهدّم، أطلقت العجوزة عبارتها تلك برمزيتها ودلالتها ؛ وهي على يقينٍ أن عدد مرّات الهدم لا بدّ أن يصل إلى الرقم ثمانية، ليضاهي عدد أبنائها الذين أنجبتهم في عملية بناءٍ ناجحة، أقلقت الاحتلال وقضّت مضجعه سنوات، فما إن يبلغ واحدهم سنّ الرّشد التي تعني في عرف الفلسطيني سنّ المقاومة، حتى يلتحق بأخيه الذي سبقه، شهيدًا أو سجينًا، بعد أن يضيف إلى سجلّ المقاومة عمليةً نوعيةً جديدة ضدّ الاحتلال.

في المقطع الفلسطيني الجديد، كذلك، تقدّم العجوزة درسًا بليغًا يصلح أن يكون ابتكارًا في علم المقاومة، مفاده بأن ثمة فرقًا شاسعًا بين ضحيةٍ وأخرى، على الرغم من تطابق المصطلح ؛ إذ لا تصحّ المساواة بين ضحيةٍ قانعة بمصيرها وضحيةٍ ترتفع فوق قامة الجلاد وتشعره بالقزميّة والدونيّة ، وتقطع عليه لذّة السوط. ومن يشهد عملية الهدم يلحظ ذلك الارتباك الذي يطبع سلوك الجنود ، وعجلتهم وعصبيتهم، ورعبهم أيضًا ؛ وكأنهم يدركون جيدًا أنهم يقترفون جريمة، لا مهمّة مباركة كما يحاول جنرالاتهم أن يقنعوهم. ومع كل حجر يسقط من البيت يتحسّسون رؤوسهم؛ لأن أم ناصر حميد قاومت مخرزهم بعينها ، واستطالت أمامهم بقامتها، وصرخت بوجوههم: "ستتعبون من الهدم ولن نتعب من البناء .. وسيرهبكم القتل ولن يرهبنا الموت .. وسيعييكم الاحتلال ، ولن تعيينا المقاومة.